جامع الكتبية بمراكش: جوهرة معمارية وتاريخية في قلب المدينة الحمراء
يُعد جامع الكتبية في مراكش من أبرز المعالم الدينية والتاريخية بالمغرب، بل ويُعتبر رمزًا من رموز العمارة الإسلامية في شمال إفريقيا. يقع هذا الجامع الشهير وسط مدينة مراكش القديمة، ويتميّز بتاريخه العريق وتصميمه المعماري الفريد الذي يجذب الزوّار من كل أنحاء العالم.
في هذه المقالة، نستعرض سويًا كل ما تحتاج معرفته عن جامع الكتبية: من تاريخه وأصل تسميته، إلى هندسته المعمارية ومكانته الدينية والثقافية، إضافة إلى دوره السياحي اليوم.
1. نبذة عن جامع الكتبية
جامع الكتبية هو أكبر مسجد في مدينة مراكش، ويُعرف أيضًا بـ"مسجد الكُتُبيين"، نظرًا لوجود سوق للكتبيين (باعة الكتب) بجواره في القرون الماضية. يعود تأسيسه إلى عهد الدولة الموحدية في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو من أهم المعالم التي تجسد عبقرية الفن المعماري المغربي-الأندلسي.
![]() |
جامع الكتبية هو أكبر مسجد في مدينة مراكش |
2. تاريخ جامع الكتبية
1.2 تأسيس المسجد
بدأ بناء جامع الكتبية عام 1147م بأمر من الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي بعد سقوط حكم المرابطين، وتم تشييده على أنقاض قصر المرابطي علي بن يوسف. لم يكن الجامع الأول الذي بُني موفقًا في تخطيطه، فتم هدمه لاحقًا وبُني المسجد الحالي مكانه في عام 1158م.
2.2 الخلفاء الذين شاركوا في البناء
شارك ثلاثة من خلفاء الدولة الموحدية في بناء وتوسعة الجامع:
- عبد المؤمن بن علي: المشرف على الإنشاء الأول.
- يوسف بن عبد المؤمن: الذي أعاد بناء المسجد وأشرف على زخرفته.
- يعقوب المنصور: الذي أتم عمليات التوسعة والتزيين وأضاف البصمة النهائية للمسجد، لا سيما صومعته الشهيرة.
3. أصل التسمية: لماذا "الكتبية"؟
1.3 سوق الكتبيين: مركز تجاري وثقافي
كان سوق الكتبيين، الذي يقع بمحاذاة الجامع، من الأسواق الحيوية والهامة في مدينة مراكش. لم يكن هذا السوق مجرد مكان لبيع الكتب والمخطوطات، بل كان أيضًا:
* مركز لنسخ وتجليد الكتب: بالإضافة إلى البيع، كانت توجد في السوق ورش لنسخ المخطوطات وتجليدها، مما ساهم في حفظ ونشر العلم.
* بورصة للمعرفة: يمكن اعتبار السوق بمثابة "بورصة" للمعرفة، حيث كانت تُعرض أحدث المؤلفات والنسخ النادرة، ويتم تبادل الآراء والأفكار بين الرواد.
![]() |
سوق الكتبيين، الذي يقع بمحاذاة الجامع، من الأسواق الحيوية والهامة في مدينة مراكش |
2.3 الرابط بين السوق والجامع
إن وجود هذا السوق النشط بجوار الجامع كان له تأثير متبادل:
* الجامع يستفيد من الحراك الثقافي: قرب الجامع من سوق الكتبيين جعله يستفيد من هذا الحراك الثقافي، حيث كان العلماء والمثقفون الذين يرتادون السوق غالبًا ما يحضرون الصلوات والدروس العلمية في الجامع.
* السوق يستمد أهميته من الجامع: من جهة أخرى، فإن وجود جامع كبير ومركزي مثل جامع الكتبية ساهم في ازدهار المنطقة المحيطة به، بما في ذلك سوق الكتبيين، حيث كان الجامع نقطة جذب رئيسية للسكان والزوار.
3.3 أثر التسمية على صورة الجامع
تسمية الجامع بـ "الكتبية" لم تكن مجرد إشارة إلى موقعه بجوار السوق، بل حملت في طياتها دلالة ثقافية وعلمية. هذه التسمية رسخت في الأذهان صورة للجامع كمركز ليس للعبادة فحسب، بل أيضًا للمعرفة والعلم. حتى اليوم، عندما يُذكر اسم "جامع الكتبية"، يتبادر إلى الذهن تاريخ عريق من التدين والثقافة المتجذرة في هذه البقعة من مراكش.
باختصار، فإن تسمية الجامع بـ "الكتبية" تعكس العلاقة التاريخية الوثيقة بينه وبين سوق الكتبيين، الذي كان له دور محوري في الحياة الثقافية والعلمية لمراكش، مما جعل من الجامع أكثر من مجرد مكان للصلاة، بل صرحًا دينيًا وثقافيًا بارزًا.
4. الموقع الجغرافي لجامع الكتبية
يقع الجامع في موقع استراتيجي وسط المدينة العتيقة لمراكش، بالقرب من ساحة جامع الفنا الشهيرة، ومقابل حي القصور. تُحيط به حدائق لالة حسناء، وتوفر مآذنه العالية إطلالة بانورامية على المدينة.
الموقع الممتاز للجامع جعل منه نقطة التقاء رئيسية، حيث يمكن رؤيته من معظم أنحاء المدينة العتيقة، ويُستخدم كمِعلَم لتوجيه السياح والزوّار.
![]() |
يقع جامع الكتبية بالقرب من ساحة جامع الفنا الشهيرة بمراكش |
5. فن العمارة في جامع الكتبية
1.5 الطراز المعماري
يعكس جامع الكتبية الطراز المعماري الموحدي، وهو مزيج بين الفن المغربي والأندلسي. يمتد المسجد على مساحة تقارب 5300 متر مربع، ويضم:
- 17 جناحًا مقسمة على أعمدة حجرية.
- 11 قبة زخرفية.
- بلاط مزخرف وأسقف خشبية فنية.
2.5 صومعة الكتبية
الصومعة هي أهم معالم الجامع، ويبلغ ارتفاعها حوالي 77 مترًا. تُعد هذه الصومعة مرجعًا في التصميم المعماري الإسلامي، حيث أُلهمت بها صومعة حسان بالرباط وبرج الخيرالدا في إشبيلية.
تزين الصومعة نقوش هندسية وأقواس، وفي أعلاها توجد كُرات نحاسية ذهبية اللون، تُستخدم في تحديد وقت الصلاة كما يُقال إنها كانت تُصنع من الذهب الخالص – رغم أنها اليوم من النحاس المطلي.
![]() |
الصومعة هي أهم معالم الجامع، ويبلغ ارتفاعها حوالي 77 مترًا |
6. جامع الكتبية والزلازل: الصمود والتجديد
في سبتمبر 2023، تعرضت مراكش إلى زلزال قوي أثّر على عدد من المعالم التاريخية، من بينها جامع الكتبية، حيث تضرر الجزء العلوي من صومعته الشهيرة. لكن سرعان ما بدأت السلطات المغربية في تنفيذ خطة ترميم دقيقة، للحفاظ على القيمة التاريخية والمعمارية للمسجد دون تغيير معالمه الأصلية.
7. الدور الديني والثقافي للجامع
1.7 المكانة الروحية
ما يزال جامع الكتبية يحتفظ بمكانته الروحية العالية في قلوب المراكشيين والمسلمين عمومًا. فبالإضافة إلى الصلوات الخمس اليومية، تُقام فيه:
* خُطب الجمعة: التي تعتبر منبراً للتوجيه الديني والاجتماعي. يستمع إليها جموع المصلين للاستفادة من مواعظ العلماء.
* الاحتفالات الدينية: يشهد الجامع إحياء المناسبات الدينية الهامة كالمولد النبوي الشريف وعيدي الفطر والأضحى، مما يعزز الروح الدينية والاجتماعية في المدينة.
* حلقات العلم وتحفيظ القرآن: يُعد المسجد مركزًا هامًا للتعليم الديني، حيث تُقام فيه دروس في الفقه والحديث والتفسير، بالإضافة إلى حلقات لتحفيظ القرآن الكريم وتجويده لمختلف الفئات العمرية. هذه الحلقات تساهم في نشر الوعي الديني والحفاظ على كتاب الله.
2.7 الدور الثقافي
لم يقتصر دور جامع الكتبية على الجانب الديني فحسب، بل امتد ليساهم بشكل كبير في إثراء الحياة الثقافية في مراكش:
* نشر المعرفة: بفضل موقعه المركزي وقربه من الأسواق والمراكز الحيوية، لعب الجامع دورًا تاريخيًا في نشر العلوم والمعارف. في العصر الذهبي لمراكش، عندما كانت المدينة مركزًا للعلم والعلماء، كان الجامع يستقطب طلاب العلم والباحثين.
* مكتبة الجامع: تشير بعض المصادر التاريخية إلى وجود مكتبة ضخمة ملحقة بالجامع في فترات سابقة، احتوت على نفائس الكتب والمخطوطات، مما جعل منه مركزًا للإشعاع الفكري.
* ملتقى للعلماء والأدباء: كان فضاء الجامع ومحيطه في بعض الفترات التاريخية بمثابة ملتقى للعلماء والأدباء والمثقفين، حيث كانت تُعقد النقاشات والمدارسات العلمية والأدبية.
* تأثير معماري وفني: لا يمكن إغفال الدور الثقافي الذي لعبه الجامع من خلال هندسته المعمارية الفريدة وزخارفه الإسلامية الأصيلة، التي تعكس تطور الفن المعماري في المغرب الإسلامي وأثرت في غيره من البنايات. صومعته الشاهقة والمزينة أصبحت رمزًا مميزًا للمدينة.
![]() |
جامع الكتبية بهندسته المعمارية الفريدة وزخارفه الإسلامية الأصيلة |
إن موقع جامع الكتبية بالقرب من ساحة جامع الفنا والأسواق التقليدية عزز من دوره كمركز حيوي ليس فقط للعبادة بل وللتفاعل الاجتماعي والثقافي على مر العصور.
8. جامع الكتبية والسياحة في مراكش
يمثّل جامع الكتبية نقطة جذب سياحي من الدرجة الأولى. يُمكن لزوّار مراكش الاستمتاع بجولة حول المسجد، والتقاط صور رائعة للصومعة، وزيارة الحدائق المجاورة، مثل حديقة لالة حسناء، قبل التوجه إلى ساحة جامع الفنا.
حتى وإن لم يُسمح لغير المسلمين بدخول المسجد، إلا أن الهندسة الخارجية وحدها كافية لترك أثر بصري وروحي عميق.
![]() |
جامع الكتبية نقطة جذب سياحي من الدرجة الأولى |
9. نصائح لزيارة جامع الكتبية
- أفضل وقت للزيارة: الصباح الباكر أو قبل غروب الشمس.
- ارتدِ لباسًا محتشمًا احترامًا لقدسية المكان.
- لا تنسَ التقاط صورة بانورامية من زاوية حديقة لالة حسناء.
- احرص على وجود دليل سياحي لفهم التاريخ والرمزية المعمارية بشكل أعمق.
خاتمة:
جامع الكتبية... قلب نابض لتاريخ مراكش وروحها.
لا يمكن الحديث عن مراكش دون التوقف عند جامع الكتبية، هذا المعلم الذي يشهد على عظمة الحضارة الإسلامية وروعة الفن المغربي. من خلال صومعته الشامخة، وتاريخه المضيء، ومكانته في وجدان المراكشيين، يظل جامع الكتبية من أجمل ما أنجبت مراكش، وأحد أروع المساجد على مستوى العالم الإسلامي.
سواء كنت باحثًا في التاريخ، أو عاشقًا للعمارة الإسلامية، أو مجرد سائح يتجول في الأزقة القديمة لمراكش، فإن الكتبية ستبقى محطة لا تُنسى.
إرسال تعليق
هل أعجبك المقال؟
شاركنا رأيك في التعليقات! نسعد بقراءتها ونتفاعل مع كل الآراء والمقترحات.
إذا كانت لديك تجربة مماثلة أو معلومات إضافية، فلا تتردد في مشاركتها معنا.